الصين في حرب. ولكن هذه الحرب ليست ضد جيوش غازية وإنما ضد صحارى متمددة تهدد أراضيها الزراعية. ذلك أنه بينما تتوسع الصحارى القديمة، وتتشكل صحارى جديدة، وينضب مزيد من آبار الري، تخسر بكين معركة طويلة لإطعام سكانها المتزايدين بمفردها. ومن شبه المؤكد أن الصين ستضطر خلال السنوات المقبلة لتلافي ارتفاع الأسعار الذي يتسبب في زعزعة الاستقرار السياسي. وهنا يأتي دور الولايات المتحدة التي تعد حتى الآن أكبر مُصدِّر للحبوب في العالم إذ تُصدر حوالي 90 مليون طن من الحبوب سنوياً، وإنْ كانت الصين تحتاج إلى 80 مليون طن من الحبوب كل عام من أجل تلبية خُمس احتياجاتها فقط. ومثلما أن الصين هي مصرف لأميركا، فإن الولايات المتحدة يمكن أن تصبح مزرعة للصين؛ غير أن هذا السيناريو في الاعتماد على الحبوب المستوردة التي يأتي جزء كبير منها من الولايات المتحدة يمثل أسوأ كابوس للصين، وسيناريو يمكن أن يخلق كوابيس للمستهلكين الأميركيين كذلك. والواقع أن الأدلة على محنة الصين واضحة. فمنذ 1950، هُجرت نحو 24 ألف قرية في الجزء الشمالي الغربي من البلاد كلياً أو جزئياً جراء تقدم وزحف الرمال على الأراضي الزراعية. ولأن ملايين المزارعين الصينيين يقومون بحفر آبار من أجل زيادة محاصيلهم، فإن المياه بدأت تقل في جزء كبير من سهول شمال الصين التي توفر نصف القمح الذي تنتجه البلاد وثلث إنتاجها من الذرة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الزراعة الصينية أخذت تفقد أيضاً مياه الري بسبب ازدياد حاجيات المدن والمصانع؛ حيث تتم التضحية بالأراضي الزراعية من أجل إنشاءات سكنية وصناعية، ومن ذلك الطرق السريعة والمواقف التي تواكب الارتفاع الكبير جداً في الطلب على السيارات. والجدير بالذكر هنا أن مجموع مبيعات السيارات في الصين عام 2009 بلغ قرابة 14 مليوناً، وهذا عدد تجاوز نظيره في الولايات المتحدة لأول مرة. ومقابل كل مليون سيارة تضاف إلى هذا الأسطول، فإن 50 ألف فدان على الأقل تضيع لصالح الطريق المعبدة. ثم إن إمدادات الصين الغذائية بدأت منذ مدة في الانكماش. ففي نوفمبر الماضي ارتفع مؤشر سعر المواد الغذائية بـ12 في المئة مقارنة مع 2009. كما ارتفع سعر الخضار وحده بـنسبة 62 في المئة. ولكن كيف يمكن، في هذه الظروف، إطعام أكثر من مليار نسمة؟ هذا السؤال يقض مضجع الزعماء الصينيين، الذين عاش العديد منهم "المجاعة الكبيرة" ونجا منها، حين مات قرابة 30 مليون صيني بسبب الجوع ما بين 1959 و1961. العام الماضي، وفي جهد لوقف ارتفاع أسعار المواد الغذائية، باعت الحكومة الصينية الذرة والقمح والأرز وحبوب الصويا من احتياطيات الدولة. وخلال السنوات الأخيرة، قامت الصين بشراء أو تأجير أراض زراعية في بلدان أخرى من السودان إلى إندونيسيا من أجل إنتاج الطعام والوقود الحيوي، غير أن ثمة القليل الذي أنتج في هذه الأراضي حتى الآن. والواقع أنه إذا لجأت الصين إلى سوق الحبوب الأميركي، وهي التي استوردت نحو مليوني طن من الذرة والقمح الأميركيين في 2010، فإن المستهلكين الأميركيين سيجدون أنفسهم يتنافسون مع قرابة 1.4 مليار مستهلك أجنبي على محصول الحبوب الذي تنتجه بلادهم. وهذا الأمر لن يرفع أسعار المنتجات المصنعة مباشرة من الحبوب فحسب، مثل الخبز والمعجنات وحبوب الإفطار، وإنما أيضاً أسعار اللحوم والحليب والبيض التي يتطلب إنتاجها كميات كبيرة من الحبوب. وبالطبع فعندما تبيع الولايات المتحدة الطعام للصين، فإنها تتعامل مع منافس اقتصادي ومقرض يملك ما قيمته 900 مليار دولار من سندات الخزينة الأميركية. وإذا تسببت الصين في ارتفاع أسعار الطعام الأميركية إلى مستوى أعلى، فإن التوتر بين البلدين قد يزداد ويتصاعد. كما سيزداد التوتر بين واشنطن والمستهلكين داخل الولايات المتحدة ، لأن الأميركيين الذين يعتبرون الطعام الرخيص حقاً طبيعياً مسلماً به سيضغطون على الأرجح في اتجاه فرض قيود على صادرات الطعام الأميركية إلى الصين. وهناك سابقة في التاريخ تؤكد إمكانية حدوث هذا الأمر: ففي السبعينيات، قامت الولايات المتحدة بحظر صادرات حبوب الصويا إلى بلدان مثل اليابان بغية وضع حد تضخم أسعار الطعام في الداخل. لكن رغم أن الإحجام عن تصدير الطعام عن قوة عظمى صاعدة يمكن أن يساهم في خفض أسعار الطعام الداخلية، فإنه سيمثل عملاً سيئاً من الناحية الدبلوماسية. ذلك أنه حتى إبان الحرب الباردة، قامت الولايات المتحدة بتصدير 10 ملايين طن من القمح، أي قرابة ربع المحصول الأميركي في 1972 إلى الاتحاد السوفييتي بعد فشل المحصول هناك. فهل يمكن أن ينجح ذلك اليوم؟ الواقع أن إدارة أوباما، أو أي إدارة في المستقبل أمام اختيار صعب. فإذا قمنا بالحد من مبيعات الحبوب إلى الصين، فهل يمكن أن يقوم الصينيون بالحد من عمليات الشراء الشهري في مزادات الخزينة الأميركية؟ ثم ماذا سيحل بالمزارعين الذين لا يستطيعون البيع لأكبر سوق غذاء في العالم؟ إننا لا نعرف كيف ستكون نتيجة هذا التوتر سياسيا، ولكن الأكيد أننا نعرف أن عجزنا الكبير خلال السنوات الثلاثين الماضية يحد من قوتنا التفاوضية. تمثل الولايات المتحدة السلة الغذائية للعالم منذ أكثر من نصف قرن من الزمن. والواقع أن بلدنا لم يعرف أبدا نقصاً في المواد الغذائية أو تضخماً منفلتاً في أسعار الطعام. ولكننا، شئنا أم أبينا، سنضطر لاقتسام محصولنا مع الصينيين، بغض النظر عن إلى أي مدى سيتسبب ذلك في رفع أسعارنا. إن عالمنا على وشك أن يتغير؛ غير أنه في طابور الخروج من السوبرماركت، وفي المطاعم واجتماعات الاحتياطي الفيدرالي، من الصعب أن نتخيل أنه تغير إلى الأفضل. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ليستر براون رئيس معهد "سياسة الأرض"، ومؤلف كتاب "عالم على شفا الهاوية" ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست وبلومبرج نيوز سيرفس"